بين الألم والواجب: تأملات في نصرة غزة وحماية الأقصى
فرشته نوري
تخیلوا هذا المشهد..
لقد استُشهد جميع أهالي غزة، ولم يتبقَّ من هذه المدينة سوى أنقاض يسكنها مَن بقي على قيد الحياة.
لقد انتهت الحرب بين غزة والاحتلال الإسرائيلي، وانتهت بانتصار إسرائيل، وسيطرتها على المسجد الأقصى.
تأمّلوا في صور المسجد الأقصى المستقبلية... حين يُمحى نسيجه الأصلي، ويتحوّل إلى بناء لا يمتُّ بصلة إلى عقيدتنا وميراثنا الروحي.
تأملوا ما الذي ستشعرون به عندما تقرأون الآية الأولى من سورة الإسراء:
﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى﴾؟
ما هو إحساسكم تجاه المكان الذي وقعت فيه إحدى أعظم معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، والذي كان أولى القبلتين، وقبلة المسلمين لعدة أشهر؟
كيف سيكون شعوركم عندما لا يعود لكم الحق في زيارته؟ ولا تقدرون أن تطؤوا الأرض التي ضحّى لأجلها الخليفة الأول والثاني وسائر الصحابة الكرام، ثم صلاح الدين البطل، بأرواحهم، لكي تظلّ مقدسة وشاهدة على كرامة الأمة!
إذا تجاهلنا الألم والمعاناة التي يتحمّلها شعب فلسطين، وبالأخص أهل غزة، في وجه العدوان الظالم من قِبَل إسرائيل والولايات المتحدة،
فهل سيتجاهلنا الضمير الحي، أو المسؤولية الدينية، أو - وهو الأهم - عدل الله في الدنيا ويوم الحساب؟
كيف سيكون حكم الأجيال القادمة علينا؟
وهل يمكن حجب هذه الخيانة عن وعيهم وذاكرتهم؟
أليس التغافل عن الظلم بحد ذاته ظلماً آخر؟
فلو وُجد لكل معركة من معارك صدر الإسلام سبب مشروع، فإنّ جميع هذه الأسباب قد اجتمعت في الحرب التي يشنّها الاحتلال الإسرائيلي ومعه أمريكا على غزة.
من جانب آخر، جاءت آيات في القرآن تجعل من الدفاع عن المظلوم ثمرةً طبيعيةً للتربية في أحضان هذا الدين السماوي الخاتم؛
إذ إنّ الله تعالى يدعو المؤمنين صراحةً إلى القتال دفاعاً عن الرجال والنساء والأطفال المستضعفين الذين استبدّ بهم الظلم، وضيّق عليهم سبل العيش.
والأمر اللافت في هذه الآية أن الدافع الوحيد الذي دعا إلى الجهاد ليس إلا كون هؤلاء مظلومين!
فما بالك إذا كان هؤلاء من إخوانك في الدين؟!
وبناءً على هذه الآية، وسواها من الآيات التي شرعت القتال لأسباب دفاعية، وردّ الظلم، ومنع الفتنة، ومقاومة التهجير القسري،
فإنّ واجب المسلم في كل زمان ومكان هو الوقوف مع المظلوم،
والامتناع عن الجهاد في سبيل نصرتهم - بكل وسيلة ممكنة - يُعدّ مخالفةً لأمرٍ إلهيٍّ صريح. 

وإن نظرنا إلى الأمر من زاوية استقرائية، فستتّضح لنا أكثر ملامح الاتهام الذي يطاردنا في الدنيا ويلاحقنا في الآخرة.
فنحن مسؤولون ـ واحدًا واحدًا ـ أمام كل طفلٍ يتيم،
وأمام كل لحظةٍ تجرّع فيها هؤلاء الأطفال مرارة الجوع،
وأمام كل دقيقةٍ تأنّ فيها قلوب الآباء والأمهات من عذابٍ مضاعف: عذاب أنفسهم، وعذاب رؤية أحبّتهم يتلوّون من القهر والعجز.
نحن مسؤولون أمام معاناة الأسرى خلف قضبان سجون الاحتلال،
وأمام آهاتهم تحت سياط التعذيب،
وأمام دماء الأطفال والنساء والرجال الأبطال الذين سقطوا شهداء،
وأمام تكرار مشاهد النزوح والتشرّد،
وأمام الجهاد اليومي من أجل تأمين الحد الأدنى من مقوّمات الحياة.
نحن اکثر من متهمین...
لأنّ أفعالنا تجاه غزة لا تتطابق مع مبادئنا التي نزعم الإيمان بها!
فهل يبقى فينا عِزّة أو إيمان، ونحن نحمل وزر هذا الذنب العظيم؟
يا ويلنا في يومٍ نرتعد فيه لمحاسبةٍ على الذنوب الكبيرة والصغيرة...
فكيف بمن يجرّ وراءه وزر أمّة، وألم أجيال؟!
ما أشدّ الخزي أن ندّعي الانتساب إلى دينٍ نرتجي منه النجاة،
ثم تكون مواقفنا هي السبب في أن نكون نحن أنفسنا من حطب جهنم!
إنّ هذا التقاعس المخزي لا يقف أثره عند حدود ضمير الفرد،
بل يُحدث جراحًا عميقة في خمسة أبعاد محورية في كيان الأمّة الإسلامية، كأنّه نجمة خماسية سوداء ترسم الخراب في هذه الدوائر:
- إضعاف قاعدة الإيمان في نفوس المسلمين، وزلزلة صفاء العقيدة.
- انخفاض مكانة رموز الدين الأوائل، من رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، في نظر العامة.
- تآكل مصداقية الإسلام في أعين غير المسلمين، وازدياد الهوة بينهم وبين مبادئ الدين، وكأنّ خندقًا من الشبهات قد حُفر حول القيم الإسلامية.
- زيادة إذلال المسلمين في العالم، وما ينتج عن ذلك من آثار مباشرة وغير مباشرة تطال واقعهم وهويتهم.
- وتحميل المؤمنين أوزارًا مضاعفة، بسبب هذا الموقف السلبي، وما سيترتب عليه من نتائج لاحقة؛ إذ إنّ الحساب في الآخرة سيكون على الفعل، وعلى عواقبه كذلك.
وهكذا، نُضطرُّ بمرارة أن نشهد استعراضَ قوّةٍ دنيءٍ لأمّةٍ لم تزل ـ منذ بدايات دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ـ تسعى إلى ضرب الإسلام والمسلمين،
بدءًا من السخرية والطعن بالقرآن، ثم بتحريف الكَلِم، وارتكاب الخيانات المتكررة،
وها هم اليوم، بعد أربعة عشر قرنًا، يُوجّهون ضربة قاتلة للدين ولأمة محمد صلى الله عليه وسلم.
ضربة تصبُّ بالكامل في مصلحة الشيطان.
ومن أبرز الفوارق التي تميز الإسلام عن سائر الأديان: مبدأ الجهاد،
الذي لا يخفى على أحدٍ أنّه كان من العوامل الجوهرية في بقاء الإسلام حيًّا نابضًا بالحياة.
وإقصاؤه أو تعطيله، سيخلّف حتمًا آثارًا كارثية على نقاء الإسلام واستمرارية المجتمع الإسلامي؛
وما يجري في غزة ليس إلا صورة مصغّرة لهذا الخلل الجسيم!
فهل يجوز لنا أن نتقاعس عن سائر أوامر الله كذلك؟!
إنّما استجاب المؤمنون الأوائل لنداء الجهاد لا لأنهم عشّاق حرب،
بل لأنهم وجدوا في نصوص القرآن تكليفًا إلهيًّا يقتضي التضحية والفداء.
لكنّ المؤسف هو أننا اليوم، وللأسف، نقوم بإبطال آثار تلك التضحيات، ونعطّل بركات تلك الانتصارات التي حققها السلف بدمائهم الطاهرة!
واليوم، إذا تأملنا الوصف الإلهي الذي ورد في القرآن عن محيط المسجد الأقصى،
نجد أنه ذات الوصف الذي أُطلق على أجزاءٍ من البيت الحرام؛
ما يدل على علوّ شأن هذه البقعة، وقداستها.
ومن هنا، فإنّ إسرائيل ـ طمعًا في دعم أمريكا ـ
قد لا تكتفي باغتصاب المسجد الأقصى،
وأمريكا بدورها تسعى للهيمنة على "بركات ما حول الأقصى"،
في تعاونٍ شيطانيٍّ يبيح لهما ارتكاب أي جريمة دون رادع!
لكن، لنعلم جيدًا:
النجمة الخماسية التي تسعى إسرائيل لرسمها على خارطة الجغرافيا، لم تكتمل بعد!
ولا شك أنّها ستتجه لاحقًا نحو الدول المحيطة بها، لاستكمال أضلاعها الخمسة،
بل وقد تسعى لاحقًا إلى توسيع رقعة كل ضلع، لتخلق خارطة جديدة يُفرض فيها الباطل باسم القوة!
وفي الختام، وبكل أسى، أدعو القارئ أن يتأمّل بتدبّر ولو لمرةٍ واحدة في الآيات التالية:المائدة:۱۵،الممتحنة: ۹،التوبة: ١٩